الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية المنصف بن مراد يكتب: من تاريخ الجلادين فـــــي تــونــــس

نشر في  23 نوفمبر 2016  (09:45)

 التاريخ لا يمكن أن يكتبه السياسيون أو أنصارهم أو المنتصرون أو رجال السلطة لأنّهم يزيّفونه لفائدتهم...
نظّمت هيئة الحقيقة والكرامة سلسلة من الحصص للاستماع لشهادات تونسيين وتونسيات كانوا ضحايا القمع والتعذيب وأغلبهم من الاتجاه الاسلامي واليسار واليوسفيين.. ان الاطلاع على كل هذه الممارسات أمر ايجابي لأنّ التعذيب بشع وغير انساني ومرفوض مهما كانت التعلات التي تحاول تبريره، ولقد عبرت عن ذلك سنة 1966 أو 67 في رسالة مضمونة الوصول بعثت بها الى وزير الداخلية آنذاك ندّدت فيها بتعذيب مواطن (أستاذ) في مركز نهج كولونيا بطريقة وحشية وطالبت بفتح تحقيق  ضد الجناة فوقع استدعائي للقرجاني من قبل احدى الفرق الأمنية المختصّة واستنطاقي وعندما سألني الباحث:هل هناك علاقة بيني وبين الموقوف، أجبته قائلا:«نعم هناك علاقة متينة فكلانا ينتمي لنفس الشعب!».. كان موقفي ثابتا وواضحا لأنّ التعذيب الممنهج جريمة كبرى فالانسان لا يمكن ان يدافع عن نفسه أمام نظام يعتقد ان له الحق في تعذيب الناس وخرق القوانين وانتهاك كرامة الانسان، ورغم هذا لا أرى مانعا في تعنيف الارهابيين فقط (ولا تعذيبهم) لإجبارهم على الاصداع بالحقيقة وكشف أسرار قد تنقذ أرواح أبرياء كانت مخططات ارهابيّة تستهدف أرواحهم.

في بداية الثمانينات عندما كنت مديرا لمجلة «حقائق» كانت السيدة سهام بن سدرين من ضمن الطاقم المسيّر لهذه النشرية ومعها بورقيبة بن رجب والعربي بوقرة وحبيب بوحوال والعروسي العمري وحمدي الحمايدي وهشام جعيط وسمير عبد الله، كنا فريقا متماسكا نناضل من أجل اعلام حرّ دون أيّ خوف من العواقب او المحاكمات.. وأمّا اليوم فلا نعتقد انّ هيئة الحقيقة والكرامة ستكتب التاريخ الحقيقي لتونس لأنّ هذا التاريخ سيكتبه ـ يوما ـ المؤرّخون المستقلّون ذوو التكوين الأكاديمي الذي يؤهّلهم للتثبت من تاريخ بلادنا بايجابياته وسلبياته.
انّ التاريخ الصحيح لتونس لن تكتشفه هيئة الحقيقة والكرامة التي اختار المجلس التأسيسي المنحاز للترويكا أعضاءها، ولن نذيع سرّا اذا قلنا انّ هذا المجلس كانت له  ميولات ايديولوجية وسياسية ثابتة، فتاريخ تونس ملف آخر  وكل ما في الأمر انّ هذه الهيئة ستوفر الإطار الذي سيسمح للتونسيين بالاطلاع على جزء من بشاعة أنظمتهم السابقة علما انّ لهذه الأنظمة انجازات هامّة وخاصّة نظام الزعيم الحبيب بورقيبة الذي أسس الدولة العصرية والمدنية وجعل من حقوق المرأة والتعليم والصحة أولويات وركائز في ذلك الزّمان وبعده خطّطت الحركة الاسلاميّة لانقلاب كان سيجعل من تونس إمارة اسلاميّة، فلا يجوز الحكم على حكومات الزعيم بورقيبة انطلاقا من بعض شهادات المعذّبين الذين نحترمهم ونأسف ونندّد بتعذيبهم دون ايّ احتراز لكن  من التجنّي الحكم على نظام بأكمله بالنّظر الى ما تضمّن من تجاوزات..
بالنسبة الى ضحايا التعذيب التابعين لحركة النهضة، فممّا لا يرقى اليه شكّ، هو انّ اغتيالهم أو تعذيبهم يعدّ جريمة دولة غير مقبولة على الاطلاق لأنّ القتل والتعذيب يرفضهما كل ديمقراطي أو مواطن يؤمن بحقوق الانسان، ومن واجب أصحاب الفكر الحرّ أن يتذكروا من كانوا في عزلة مطلقة أمام الجلاد ومن فقدوا حياتهم تحت التعذيب.. لكن مهما يكن من أمر، لا يعقل توظيف هذه الممارسات الوحشية سياسيّا أو محاولة التنكّر لانجازات بورقيبة الذي كانت له خيارات صائبة في بناء الدولة المعاصرة.. ومن جهة أخرى نطالب بمعرفة كل الحقيقة عن دور الترويكا في انتشار العنف والارهاب ومساندة الأيمّة المساندين للعنف والذين أرسلوا عددا من شبابنا الى محرقة سوريا، وعن الأوامر التي صدرت لاستعمال الرشّ في سليانة واغتيال الشهداء نقض وبلعيد والبراهمي، وليتنا نعرف الحقيقة كلّ الحقيقة عمّن كوّن ميليشيات أو سمح بتخزين الأسلحة أو تعامل مع المتشدّدين الليبيين لمساندة التطرّف وتأجيج نيران الحرب الأهلية في هذا البلد الشّقيق.. كما علينا ان نستمع لشهداء العائلات التي كانت ضحايا عمليات لجنة تنسيق باب سويقة وتفجيرات المنستير.. انّ الاستماع لكلّ المتضرّرين ليس من أجل الانتقام أو التشفّي بل لنفض الغبار عن جزء من الحقيقة حتى نحصّن بلادنا من طاعون التعذيب مهما كان شكله ومصدره وحتى نقطع الطريق على التصفية الجسدية، وبذلك نساهم في كتابة التاريخ الصّحيح لتونس..

رحم الله ـ على سبيل المثال ـ فيصل بركات من الاتجاه الاسلامي الذي اغتاله النظام التونسي كما نسأل الرحمة لنبيل بركاتي الناشط في حزب العمال الشيوعي والذي اغتيل في ظروف بشعة، وأمّا اليسار فقد قاوم النظام التونسي بشراسة، لا سيما قيادات آفاق الذين عذّبوا وسجنوا خاصة في برج الرّومي وأغلبهم واجهوا التعذيب المسلط عليهم في ظروف قاسية من أجل أفكارهم، وبعد  اطلاق سراحهم أصبحوا من خيرة مثقفي هذه البلاد، وللأمانة فانّ عديدين منهم لم يحقدوا على  نظام بورقيبة ولم يطالبوا بتعويضات لأنّهم كانوا يعتبرون انّ نضالاتهم  لفائدة الشعب وحبّ البلاد لا يجازى عليه صاحبه بجني الأموال، وبالنّسبة الى اليوسفيين فانّ اغتيال الزّعيم صالح بن يونس من قبل قتلة بلا ضمائر جريمة دولة..

كما وقع اغتيال وتعذيب آخرين من هذه الحركة ومن حقّنا معرفة كلّ الحقيقة عن الجلادين أو الفرقة الأمنية التي أمرت أو نفذت هذه الجرائم.. بقي أن بعض المتضرّرين المنتمين للحركة اليوسفية قدموا شهادات منحازة «للمعسكر القومي العربي» لكن رغم ذلك نعتقد انّ من حقّهم التعبير عن رؤيتهم للتاريخ.
على العموم، انّ هيئة الحقيقة والكرامة لم ولن تعوّض القضاء ولن تعوّض الدراسات التاريخية للأكاديميين وكان من الأفضل ألا تقدم تقديرات مالية لضحايا التعذيب..
إنّنا بحاجة للحقيقة دون ايّ رتوش سياسي أو توظيف ونحن في انتظارها!